الموسيقى التصويرية .. ملح الأفلام!


كانت السينما في البداية عبارة عن أفلام صامتة مجرد إطارات صور تتحرك وراء بعضها وبعد فترة زمنية أضافوا إليها أصوات الأشخاص الذين يتحدثون في الأفلام ومع ذلك ظلت الأفلام مثل الطعام الذي ينقصه الملح ليجعله مستساغاً إلى أن تمت إضافة الموسيقى التصويرية إلى الأفلام , ويعتبر المؤلف الفرنسي كاميلي ساينسينز تقريباً أول من قام بكتابة وتأليف موسيقى خصيصاً من أجل فيلم معين، وقبله كان الملحنون إنما يقومون عموماً باقتباس بعض الكلاسيكيات الموسيقية المعروفة مع بعض التغييرات البسيطة. أو يقومون بعزف ألحان تتكرر غالباً في الأفلام الأخرى. الطريف في تلك الفترة أن أحد أشهر الكوميديين في فترة الأفلام الصامتة، وهو شارلي شابلن، قام بتأليف بعض الموسيقى لأفلامه الخاصة مثل فيلم "أضواء المدينة".

وفي أواخر العشرينيات تمت إضافة الصوت إلى الصورة في الأفلام تمتزج بحوارات الممثلين , ومن هنا جاء الحرص على أن تكون الموسيقى مناسبة لأجواء الحوار أو المشهد الذي تمتزج به فعندما ترى مشهد يبعث على الحزن ترى الموسيقى تميل إلى الحزن أو مشهد معركة حربية تسمع الموسيقى العسكرية التي تبعث على الحماس وهكذا حسب نوعية المشهد الدرامي.

ومع بداية الثلاثينيات حدثت طفرة في مجال الموسيقى التصويرية فقد أثبت المؤلف الموسيقي العظيم ماكس ستينز أن الموسيقى التصويرية لها مفعول السحر في مشاهدة الأفلام فللمرة الأولى يؤلف أحدهم موسيقى تتجانس مع ذلك القدر الكبير من الأحداث وتتلاعب بعواطف الجمهور بشكل كبير, وأسهم ستينر كثيراً في تشكيل وتأسيس الموسيقى التي نعرفها اليوم، والتي لم تعد مجرد معزوفات عشوائية بل ألحان مدروسة تربط بين الصورة وبين المتفرج. لحّن ستينر أفلاماً أخرى فيما بعد مثل «كازابلانكا» و"ذهب مع الريح"وهي أشهر الكلاسيكيات التي ما زالت خالدة حتى يومنا.

وأسهمت الحرب العالمية الثانية في الموسيقى بشكل عام والموسيقى التصويرية بشكل خاص , وذلك للحاجة لتعزيز المقطوعات الموسيقية الوطنية خلال الحرب , وما إن انتهت الحرب حتى جاءت موجة جديدة مؤلفة من مواهب الشباب غيرت الكثير من ملامح السينما عموماً، ففيما يتعلق بالموسيقى قام المؤلفون الناشئون بنقلها من طابع السيمفونيات الثقيلة إلى الموسيقى أخف وأسهل. بعدها جاءت الخمسينات وكانت فترة حاملة بالكثير من التغييرات، فقد كان اختراع التلفاز سبباً في تشكيل تهديد للسينما عندما جلب أعداداً كبيرة من موظفيها إلى برامجه.

منذ الخمسينات تزايد اهتمام عامة الجمهور بموسيقى السينما أكثر، فأصبحوا يتلذذون بالنمط الموسيقي السينمائي. على سبيل المثال، عندما أطلقت أغنية نهر القمر Moon River في الفيلم الشهير Breakfast at Tiffany's في الأسواق تم بيع مليون نسخة منها وهو رقم قياسي آنذاك. وكانت أوائل الستينات البادرة التي بدأت فيها الأغاني تدخل إلى الأفلام وتؤثر في أحداثها، وذلك بعدما انتبهت الاستوديوهات إلى فعالية الأغاني الشعبية والفنانين المشهورين مثل النجم إلفيس بريسلي وكليف ريتشارد وفرقة البيتلز، كل من هؤلاء ساهموا بفنهم لعدد من الأفلام ولاقى ذلك نجاحاً هائلاً.

شهدت الستينات ولادة موجة جيمس بوند مع موسيقاه التي لا تمل من تأليف جون باري، كما انتشرت في هذا العقد ظاهرة الأفلام الموسيقية، أفلام الغناء والرقص مثل ماري بوبنز Mary Poppins، وصوت الموسيقى Sound of Music. واستمرت هذه الظاهرة حتى نهاية السبعينات عندما بدأ صداها يخبو. وانطلقت بدلاً منها الموسيقى الحالمة الفنتازية، فحالما توفرت القدرات الكومبيوترية ظهر جيل من المخرجين بزعامة ستيفن سبيلرج وجورج لوكاس يخرجون أفلاماً خيالية، مثل حرب النجوم وE.T. والتي كانت تحتاج لموسيقى كفيلة بنقل المشاهد إلى عوالم الخيال، وقد وقف خلف معظم تلك الأفلام الملحن الشهير جون ويليامز، تلقى هذا الملحن 37 ترشيحاً للأوسكار خلال مشواره الفني فاز بخمسة منها.

وتعتبر الثمانينات والتسعينات مفصل هام في مسار موسيقى السينما، فقد جاءت موجة جديدة في الموسيقى تتمثل بالتأليف الموسيقي الإلكتروني، وهي موجة استمرت حتى وقتنا الحاضر، ليس من خلال آلات عزف حقيقية إنما من خلال أجهزة تحوي في داخلها مئات الأصوات والإيقاعات، وأشهر ملحنين هذه الموجة هو هانز زيمرHans Zimmer الذي ما زال متألقاً حتى يومنا، وجاء ـ لاحقاً ـ بألحان ساحرة لأفلام قوية مثل رجل المطر Rain Man، والأسد الملك Lion King، والمصارع Gladiator ومن عباقرة الموسيقى المعاصرين جيمس هورنر James Horner الذي يمتلك عبقرية في صنع الألحان الملائكية التي لا يُمل سماعها، وأشهر ألحانه تمثلت في هذه الأفلام: أساطير الخريف Legends of the Fall، والقلب الشجاعBrave Heart، والتايتنك The Titanic. وآخر ألحانه العذبة جاءت في فيلم عقل جميل A Beautiful Mind.

إن الموسيقى الممتازة منتشرة بكثرة في أفلام هوليوود، ولكن من النادر أن تعثر على ذلك النوع الساحر من الموسيقى الذي يبقى في ذهنك طويلاً. فالبحث عنه كالبحث عن الذهب بين الحجارة، ولكن إن أردت معرفة تلك الأفلام فستجدها في أفلام هانز زيمر وجيمس هورنر المذكورة أعلاه، إلى أفلام مثل العراب The Godfather للملحن نينو روتا، والرسالة The Message لموريس غار، وسيد الخواتم The Lord of the Rings لهوارد شور. وهكذا لم تعد الموسيقى في الأفلام مجرد عنصر إضافي كما هو الحال في بدايات السينما بل صار جزءا مهماً له أصوله وأنماطه وأثره القوي على المشاهدين، وأصبحت الأفلام بدونها مملة ولا طعم لها. لا شيء أجمل من تقاطع الفن المسموع مع الفن المرئي.

أما عن عملية التأليف الموسيقي ذاتها , فمتى يقوم المؤلف بتأليف الموسيقى وتلحينها , وكيف تتم هذه العملية؟لعملية؟ والحقيقة أن الموسيقى تؤلف بعد انتهاء العمل على الفيلم وتصويره. فبعد تخطيط بين المخرج والملحن، يكون الملحن قد خرج وهو يعرف المشاهد التي سوف يلحنها فيُعطى مدة زمنية محددة ينجز فيها عمله، يعود إلى منزله، ولا يفعل شيئاً سوى الاسترخاء والانتظار، فالمبدع لا يسيطر على وقت إبداعه، والألحان الجيدة ـ كما يقول الملحن الكبير هانز زيمر ـ تأتي وأنت لا تفكر فيها. وفي لحظة معينة، تأتي شرارة الإلهام فتنطلق الألحان وتتدفق في مخيلة الملحن، ويسجلها على أوراق موسيقية خاصة ويعيد صياغتها مرات ومرات، مجرباً استخدام مختلف الآلات من أجل التوصل إلى أفضل مستوى يمكن عزف ألحانه فيه، وفي مقر عمله يوجد صالة موسيقية ضخمة مزودة بكامل الآلات التي يحتاجها، وشاشة سينمائية ضخمة يستطيع تجعله ينظر إلى مدى توافق موسيقاه مع الفيلم. وفي النهاية وحالما ينتهي من تجهيز اللحن، يقود الفرقة الموسيقية ويتم تسجيل ألحانه التي نسمعها في الفيلم.

أما عن سبب تأخير تأليف الموسيقى حتى انتهاء التصوير، ولماذا لا يكون قبل ذلك، فهو لأن الملحن عندما يرى المَشاهد التي تم تصويرها والأحداث التي رسمها المخرج يعيش ظروف الممثلين ويتعمق في أجواء الفيلم، فتتولد ـ كنتيجة لذلك ـ مشاعر معينة تلائم أجواء الفيلم، هذه المشاعر توجه الخيال الموسيقي في ذهنه، وتساهم في تشكيل الإلهام الذي ينمو داخل مخيلته المبدعة وفقاً للانطباع الذي خرج به من محيط الفيلم. وهذه نقطة مهمة تساهم كثيراً في تجانس الموسيقى مع الفيلم. فالمشهد الحزين مثلاً يجعل الملحن حزيناً ويلهمه ـ بالتالي ـ لتأليف موسيقى حزينة.

إن عمل الملحن الموسيقي في الأفلام ليس مجرد خلق الألحان، بل الأمر أوسع من ذلك. إن الأحداث في أفلام السينما متقلبة ومعقدة وكل نوع يختلف عن الآخر، وعلى الملحن معرفة كيف يوظف الموسيقى في كل نوع من الأحداث والأجواء، فموسيقى الخلفية هي التي تكون هادئة متوارية خلف حوارات الممثلين الهامة من دون أن تصدر إزعاجاً يشتت المتفرج عن العنصر الأساس في المشهد، ولهذا فمن النادر أن نسمع أية موسيقى أثناء مشهد يحوي جدالاً وصراخاً. وعلى العكس من ذلك هنالك موسيقى الحدث عندما تطغى الموسيقى فوق الصورة، وذلك حين يسكت الممثلين وتنطق مشاعرهم، فتكون الموسيقى في هذه المواقف مسؤولة عن خلق الجو العام للمشهد المراد توصيله للمتفرج، فتعبر إما عن أجواء الحزن أو الرومانسية أو الفرح إلى آخره. وهنالك موسيقى النهاية ذات الطابع الختامي، والتي تجعل المشاهدين ـ في معظم الأحيان ـ يعلمون أن الفيلم قارب على الانتهاء رغم أنهم لم يروا عبارة النهاية بعد.

موقع هانز زيمر www.hanszimmer.com

موقع جيمس هورنر www.james-horner.com


 

0 التعليقات: